"تن تن تتن" ماركة 14 فبراير المسجّّلة: قل للطاغية إنهم يغنّون أيضا !
2012-01-02 - 7:36 ص
همس الثورة المخنوق و"تكتكة" المقاومة بالحيلة.. إنها الموسيقى يا غبي
مرآة البحرين (خاص): بتواضع، فهذه ثورة أتت بموسيقاها. كان يمكن للحناجر أن تستمر في ترجيع الهتافات الصاخبة، وللقبضات أن تظل معلقة في الهواء، أبداً. لكن لحسن الحظ أن الثوار البحرينيين لم يتأخروا في العثور على شاراتهم، ورمزياتهم ذات المعنى العميق، التي تشاركهم ملحمة التوق إلى الحرية، والتخلص من الديكتاتورية.
كان المفكر إدوارد سعيد يعول على الأبعاد الاجتماعية والثقافية للموسيقى، وراح لذلك يؤسس أوركسترا تعزف للحرية وتنفتح على اتساع حلمه الفلسطيني المستلب. ومثله وضع مفكر اللاعنف الأميركي جين شارب، الموسيقى ضمن مصفوفته المنتخبة لأدوات الكفاح اللاعنيف. العملية، هي: أنك تحاصر الديكتاتورية ورموزها، بشاراتك ورموزك، التي تتوافر فيها القدرة على النفاذ من المسارب الضيقة، بحيث يتعذر على الديكتاتور ألا يراك.
حين اخترق الناشط البحريني الشاب موسى عبدعلي موكباً رسمياً للحكومة البحرينية في العاصمة البريطانية (لندن) 13 ديسمبر/ كانو الأول 2011، كان كافياً أن يشرع في الطرق على مقدمة إحدى السيارات في الموكب وفقاً للإيقاع التالي: "تن تن تتن"، لتصل الرسالة. وقد وصلت. أدى الطرق لتلفيات طفيفة في السيارة فغرم في محكمة بريطانية 6 آلاف جنيه إسترليني.
وفي محاولات قوات الأمن البحريني المتكررة وشبه الليلية لإعادة بسط السيطرة على القرى الفقيرة المعدمة التي تشهد احتجاجات يومية، كانت تستطيع باستمرار، مستغلة تفوقها النوعي باستحواذها الكلي على وسائل العنف والإكراه، استعادة السيطرة عليها فعلاً، وإشعار الساكنين بقوتها الماحقة. لكن من بعيد، كانت الاحتجاجات تتخذ صيغة أخرى، شبحية. إذ سرعان ما تنطلق مدقات الطرْق الرهيفة محاكية الإيقاع نفسه: "تن تن تتن"، مستمراً دون انقطاع حتى ساعات متأخرة من الليل.
يبدو الأمر كما لو أنه قسمة عادلة: تملك قوات الشرطة الأرض، أما الهواء ومساحاته المثلى للتعبير فيظل ملكاً للمتظاهرين. يختفي وجودهم المادي من الساحات، من دون أن يعني ذلك اختفاء أثرهم الذي يبقى مقيماً في الأجواء مثل "بصمة شبحية". في أحيان كثيرة، لاحقت قوات الأمن مصدر انبعاث الصوت، لكن عبثاً، فهي تبدو كمن يلاحق السراب.
في الحقيقة، إن كل الجهات يمكن أن تغدو مصدراً لهذا الابتكار الصوتي الأقل كلفة. إنها "موسيقى" الضعفاء، والشكل الأمثل ل"المقاومة بالحيلة": كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم!
بالطبع، فليست في كل مرة تسلم الجرة. وقد دفع كثيرون كلف ذلك، ضرباً أو سجناً. يتناقل المعارضون حكايا كثيرة لقيام قوات الشرطة بالتصويب عليهم خلال الفترة التي تلت فرض "قانون السلامة الوطنية" الذي يقول محامون إنه أشد من الأحكام العرفية، بدءاً من منتصف مارس/ آذار، لدى استخدامهم أبواق السيارات وفقا للإيقاع المذكور. وفي مرات كثيرة، اعتقل أشخاص للسبب ذاته.
كان الشاب حسن جواد القصاب أحد ضحايا نغمة "تن تن تتن" الذين ألقي القبض عليهم في مارس/ آذار عند إشارات منطقة الديه الضوئية، إحدى بؤر الاحتجاجات العنيفة شرق العاصمة (المنامة)، كما تمت مصادرة سيارته. في الواقع، إن هذه الحكايا لم تكن ضرباً من المبالغات التي يختلقها معارضو الحكومة لإثبات وحشية من يعارضونه.
لقد قام محمود شريف بسيوني رئيس لجنة تقصي الحقائق الملكية التي أمر بتشكيلها الملك بتوثيق حالات لأشخاص ألقي القبض عليهم في مارس/ آذار عند حواجز التفتيش التي أقامها الجيش، ولم يكن السبب غير إحداثهم للنغمة المذكورة بواسطة أبواق السيارات. وقد أشار مرتين في الأقل في ثنايا التقرير الذي قام بعرض موجز له في قصر الملك بالصخير 23 نوفمبر/ تشرين الثاني، ونقلته شاشات التلفزة.
ففي معرض سرده للأحداث التي وقعت في 10 مارس/ آذار، قال "أقيمت بعض نقاط التفتيش الأمنية في مناطق مختلفة من البحرين (...) كان يتم استيقاف السائقين وتفتيشهم واحتجازهم لاستخدامهم أبواق سياراتهم بطريقة معينة في إشارة لشعار (يسقط حمد) وهو الشعار الذي يحظى بشعبية كبيرة بين المحتجين".
وفي إشارة أخرى للأحداث التي وقعت يوم السبت 26 مارس/ آذار، أفاد أن "دوريات الشرطة واصلت القبض على الأفراد الذين يطلقون أبواق سياراتهم بطريقة تحاكي الهتاف (يسقط حمد)" حسبما جاء في التقرير.
أدت حملات الضبط المستمرة، واستهداف المارة، مع تعريضهم لحفلات العقاب الانتقامية، إلى اختفاء النغمة من الشوارع العامة بشكل مؤقت. لكنها ظلت هناك في القرى الخاوية، الغارقة في العتمة المطبقة، الشكل الاحتجاجي المفضل للمعارضين الذين أعادتهم القبضة الأمنية الشرسة مع إطلاق يد العسكر إلى داخل قراهم، بعد أن كانوا يحتلون الساحات الرئيسة وسط العاصمة (المنامة). غير أنها لم تلبث أن عادت بقوة مع رفع قانون السلامة أواخر شهر يونيو/ حزيران.
صار معتاداً الآن سماع نغمة "تن تن تتن" بواسطة أبواق السيارات في الشوارع الرئيسة، وفي المظاهرات غير المرخصة. بل أن نشطاء يتناقلون قصصاً عن قيام شرطة مدنيين باستخدامها من أجل استدراج المتظاهرين إلى كمائن في الصدامات الليلية التي عادة ما تنتهي بانتشار كثيف لقوات الأمن.
وهي وإن اتخذت شكل "التنفيس" العام لجماعات مقموعة لم تعد تجد ما توصل به رسائلها بعد التضييق على التجمعات العامة، إلا أنها تتخذ شكل الهتاف "المتبنى" لدى الجماعات الراديكالية التي تتبنى إطاحة النظام. فهي بمغزاها المحول على "سقوط الملك" اسم على مسمى لمن ينشد السقوط الفعلي له، ضمن قناعة تفيد: إن أوان الإصلاحات قد فات.
يتفنن هؤلاء في إطلاق النغمة لإغاظة السلطات والجماعات الموالية لها على السواء. ومؤخراً، قام مختصون بإعادة توزيعها موسيقيا من واسطة آلات موسيقية حديثة معروفة لدى المختصين في مجال الموسيقى، لتكتسي بذلك طابع المرح إلى جانب خلفيتها الاحتجاجية. وقد استطاعت "مرآة البحرين" الوصول إلى أحد هؤلاء الذين قاموا بتوزيع "تن تن تتن" فنياً لتغدو نغمة صالحة الاستخدام في الهواتف المحمولة.
وقد صرح في حديث معه "هذه النغمة تقع على بار كامل في النوته الموسيقية، وهي موزونة بشكل صحيح في إيقاع يسمى الرباعي"، موضحاً "نهايتها تمكّن من العودة بكل بساطة إلى النغمة الأولى، وتكرارها مراراً دون وجود خلل نغمي".
وأضاف "الزمن المنطلق فيها موزع بشكل سليم وسهل التداول، ما يجعلها سهلة العزف والإنشاد من دون عناء بكل الآلات الموسيقية من دون استثناء".
وتابع في السياق نفسه "إنها موزونه تحمل نفس النغمة الموسيقية الواحدة فلا تحتاج للتنغيم. يستطيع أي شخص ترديدها حتى لو كان طفلاً أو غير منشد لسهولة نطقها وتوازنها الموسيقي السلس". ويقول إن ذلك ما يجعلها "سهلة التداول بين الناس" على حد تعبيره.
بالتواضع نفسه، فهذه ثورة حفرت رسمها عميقاً في وجدان البحرينيين. وأدواتها لم تعد قصراً على الحناجر الملتهبة والقبضات المعلقة في الهواء، أبداً. إنها الموسيقى يا غبي!