جواد عبد الوهاب: المعارضة البحرانية أمام التحدي الأكبر
جواد عبد الوهاب - 2022-07-05 - 6:58 ص
التعرف على مكامن الخطر في حراكنا المستمر منذ أكثر من عقد هو أحد جوانب التعرف على الذات قبل أي شروع في عمل آخر، أو إعطاء أنفسنا مهمة تاريخية. والمقدرة في الحكم على الذات هي في الوقت نفسه تعميقا لها، إذ إنها تصبح ذاتا وموضوعا في آن معا. والإشارة إلى هذه المخاطر والتنبيه عليها ليس إدانة لأنفسنا بقدر ما هي كشف عن بنانا الثقافية والثورية وتحليل النفس بوجداننا الحضاري وتشريح لأذهاننا.
هذا ما يجب أن تكون عليه "الحالة " بعد بيان آية الله الشيخ عيسى قاسم ، في الأول من يوليو الجاري والذي عبر فيه عن غضبه من تلكؤ فصائل المعارضة البحرينية في الشروع في إنتاج مشروع سياسي تتوحد المعارضة تحت مضلته ويكون ندا لمشروع السلطة لحل الأزمة في البحرين ، وإثار جدلا واسعا في الشارع البحريني.
ومما لا شك فيه أن البيان والتجاذبات التي أنتجها يظهر بالفعل أن المعارضة أمام تحد كبير وخطير هو تحدي "التوحد" في مشروع تنصهر فيه كل الجهود والأفكار والرؤى، خاصة أن الانقسام الذي غدته السلطة طوال الفترة الماضية أضعف المعارضة ككل وقوّى السلطة التي لا تزال تتمسك برؤية موحدة لحل الأزمة.
لقد كانت استراتيجية السلطة واضحة منذ تفجر الثورة وهي إحداث انقسام في صفوف قوى المعارضة، واقتناص أحد فصائلها كشريك دون غيره ليسهل إملاء الشروط عليه، وحصر الشراكة به ومنع توسيع قيادة وقاعدة الثورة، عملا بنصيحة خبراء التفاوض بمكرهم العتيد وهي: "إذا كان لديك خصوم عديدون، ضخم من قوة أحدهم في عينه وفي عين الآخرين لتجعل منه شريكا وحيدا في المفاوضات بدلا من شركاء عديدين".
وبالفعل وقعت المعارضة بقسميها الإسقاطي والإصلاحي في فخ السلطة، فانغمس الأول بالحراك الميداني دون الالتفات إلى الجانب السياسي، بينما انغمس الثاني إلى النخاع في الجانب السياسي محاولا تجيير الحراك لصالح مشروعه السياسي، وعن وعي أو غير وعي أضعف كلا منهم الآخر، بل كشف كلا منهما ظهر الآخر إلى أن أطبقت السلطة على الجميع.
واليوم وبعد مضي أكثر من عقد على تفجر الثورة ثمة مفارقة أساسية تكشف عنها الظروف الراهنة لمجمل أداء المعارضة، تكاد تكون تعبيرا عن مأزق تاريخي يمر به هذا الأداء. هذه المفارقة هي أنه بمقدار ما تفرض الشروط الموضوعية الراهنة للتحديات الخطيرة التي تواجهها الثورة، أن يكون إنتاج"مشروع سياسي" هو الرد الحاسم على هذه التحديات، فإن هذه الشروط الموضوعية نفسها تجعل "التوحد" في مشروع واحد الهدف الأبعد عن التحقق.
فلئن استطاع البحرينيون خلال العقد المنصرم أن يبهروا العالم بصمودهم أمام ممارسات السلطة القاسية، وأن يفشلوا جميع مخططات السلطة التي استهدفت إخماد ثورتهم، إلا أنهم على صعيد "التوحد" وإنتاج مشروع بين أقطاب المعارضة لم يحرزوا أي تقدم يذكر.
ولقد كان من أبرز ما كشفت عنه الممارسات العملية من جانب كلا الفريقين الإسقاطي والإصلاحي تلك العلاقة الجدلية بين الأهداف التي من أجلها تفجرت الثورة، وبين استثمارها سياسيا ومن أجل أهداف لا تنسجم لا مع تطلعات الشعب البحريني ولا مع التضحيات التي قدمها الشعب، الأمر الذي أثر على الحراك، خاصة أن انقسام المعارضة تزامن مع مشروع القبضة الأمنية الذي اختارته السلطة للتعاطي مع الثورة، مما أدى نكسة أصابت الأداء على المستويين الميداني والسياسي وأدت إلى تحول النضال إلى نضالات وأعمال متفرقة، وعجز في مواجهة التحديات الخطيرة التي فرضت عليه.
إذا كان ذلك صحيحا فإن خيار "التوحد" حول مشروع هو الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام فصائل وقوى المعارضة، ذلك أن جميع الخيارات الأخرى لا تتناسب مع الواقع والظرف ولا ترقى إلى درجة استعمالها، خاصة أن الأمور وصلت إلى أنه لا يستطيع أي من الفريقين الإسقاطي والإصلاحي إنجاز مهمة تحقيق المطالب.
ولكي لا يكون الكلام عن مشروع "التوحد" بين أقطاب المعارضة تكرارا مملا وآليا لما سبق البحث فيه في الماضي، فلا بد من ضابط منهجي، ومن شروط ومعايير أساسية أولية كاشفة ومميزة ، أي لابد من "عقلية متطورة" جديدة وحية نابعة من معاناة عميقة للتحديات السياسية والاجتماعية الراهنة التي يمر بها الوطن.
وأعتقد أن نقطة الانطلاق في البحث عن "التوحد" والتشاور والتنسيق بين أقطاب المعارضة تتحدد في الموقف النقدي النظري والعملي من أنفسنا قبل كل شيء، والذي يلخص إجابتنا على السؤال الذي ينبغي أن نطرحه بجدية ومسؤولية عن السبب الذي يمنع خلق مناخ صحي لحوار راق بين اقطاب المعارضة؟ وكيف يمكن أن نخلص من هذا الوادي الغارق في الفردية والأنانية والحزبية؟
ولابد علينا إذا أردنا الوصول إلى أهدافنا أن نكتشف الجواب، وأن نكشف عن القوانين التي تسمح بمحاصرة هذا اللامعقول في عملنا المعارض، فنحرك الأبعاد الأساسية للحدث الوطني ونجعل من هذا الفهم قاعدة انطلاق نحو مشروع "موحد" يؤهلنا إلى مجابهة سلطة تحاول تشتيتنا وتقسيمنا. فمشروع التوحد (كهدف وفكرة ومسيرة نضالية) تتطلب اليوم أن ننضج الأجوبة النظرية والعملية عن هذا التردي الراهن، ذلك أن الأجوبة العميقة لن تنضج بدون حوار بين الأقطاب.
إن الحوار في مؤتمر والالتقاء بين جميع أقطاب المعارضة قد حان وقته الآن، خاصة بعد بيان الغضب الأخير ووضوح رؤية جميع الأطراف ذات الصلة بالأزمة. وهو أي الحوار بين الأقطاب يمثل في اللحظة الراهنة أكثر من ضرورة حتى لو كانت نتيجته سلبية، فالاتفاق على شيء خير من التشرذم وعدم الاتفاق، خاصة أن الخطر على الثورة لا يأتي من أعدائها فقط، بل يأتي من أبنائها أحيانا، عندما يكون لنقص الوعي أو نقص الجدية مدخلا لإجهاض الثورة، وعندما تتحول الأهداف والمواقف إلى غطاء لأهداف وأغراض لا علاقة لها بالثورة. ذلك أنه حتى قادة المعارضة يمكن أن يساهموا في تعميق الانقسام إذا لم يعيشوا هدف "التوحد" الذي يأتي من خلال الحوار في داخلهم ويتحسسوا معنى الرابطة الوطنية التي تتكثف فيها كثافة المعنى الإنساني للوجود الفردي والاجتماعي للإنسان البحريني.
من هنا تنبع اهمية "إنتاج مشروع" يجمع الأقطاب لأنه في مثل هذه الظروف يعتبر المدخل الوحيد لإنضاج الأفكار والرؤى وإنتاج الحلول التي تستطيع أن تقدم جوابا أصيلا عن التحديات الراهنة التي تواجهها الثورة .. فكل مبادرة في هذا الاتجاه تشكل مدخلا نحو مرحلة جديدة تضع حدا لسلبيات المرحلة الراهنة.
ولابد أيضا وكي ننطلق في معالجة قضية "التوحد" في مشروع سياسي معالجة تنسجم مع متطلبات المرحلة من منهج علمي شامل، نتجنب بواسطته متاهات وأخطاء التجريد النظري والتجريبية التبسيطية، والنظرات الجزئية والانتقائية، وعمليات إقصاء الآخر التي كانت في محصلتها من عوامل ضياع الوحدة وغياب المشروع.
فـ"الوحدة" التي ينشدها بعضنا ولا يعمل لأجلها، ليس مجرد نظرية للتطبيق، أو عملا سياسيا تجريبيا، كما أنها ليست روابط طائفية أو تكتلا سياسيا أو جامعة لتنسيق التجزئة وتجميع التناقضات. فوراء الفكرة والعمل والمسيرة والمواقف والصيغ والمشاريع حقيقة اجتماعية حضارية نضالية، هي الوصول إلى أهداف الثورة وانتزاع حقوق الشعب البحريني.
من هنا، من هذه الحقيقة ينبغي على المعارضة أن تبدأ في معالجة قضية التوحد في مشروع اليوم وليس غدا.. من الواقع الذي وصلت إليه الثورة، ومن تحديد المرحلة التاريخية التي تمر بها، خاصة أن التحديات مهما كانت كبيرة فهي ليست من الناحية الموضوعية أكبر حجما من الإمكانات النضالية والجهادية للجماهير البحرينية، أو على الأقل ليست هذه الإمكانات بأقل من الإمكانات النضالية للشعوب الأخرى التي نالت حريتها كاملة. لكن الانقسام الحاصل بين المعارضة هو الذي يجعل من هذه الإمكانات أضعف من التحديات.
إذا كان غياب المشروع والوحدة بين أقطاب المعارضة هو المسؤول عن عدم التقدم، فإن ذلك يستوجب العمل الجاد من أجل توفير ظروف موضوعية أكثر ملائمة للوحدة. لذلك نقول إن الحديث عن أية استراتيجية للوصول للوحدة ومهما كان جادا وموضوعيا يظل ثرثرة وتطلعات ذاتية، إذا لم يكن صادرا عن القوى القائمة في قلب الواقع الراهن والقادرة على الفعل فيه. ذلك أن الهزائم التي يمكن أن تمنى بها القضايا الكبرى، ليست دوما نتيجة نقص في الوعي وعدم القدرة على تحليل الأوضاع واستشراف المستقبل، بقدر ما هي نتيجة عدم التطابق بين الوعي وبين الأدوات الموضوعية للعمل. والأدوات الموضوعية تاريخيا هي الجماهير الواسعة التي تمثلها قوة موحدة ترفع شعارا واحدا ومطالب موحدة.
إن المأزق التاريخي الحقيقي الذي يمكن أن تمر به أي ثورة ليس ضخامة التحديات التي تواجهها، فلكل قضية كبرى تحديات، إنما الانقسام الذي يحصل بين القوى التي تقود الثورة والذي ينعكس تأثيره على الجماهير التي هي العمود الفقري لأي ثورة، فضلا عن استثمار العدو لهذا الانقسام ومن ثم فرض رؤيته.
المعارضة اليوم بحاجة إلى عملية نقد ذاتي تكشف العثرات والثغرات التي رافقت مسيرة ثورتنا طوال الفترة الماضية ومن ثم العمل على سدها وايجاد الحلول، بشرط أن لا تكون محاكمة فكرية لتجربتنا الحركية والثورية، أو تنازل عن الثوابت وتراجع في المطالب، بل غاية استراتيجية تهدف إلى إحداث دوي في شعورنا الوطني، وطرح مسائل وبرامج، وإثارة إشكالات وتأسيس فكر، ووضع قضايا وتنشيط أذهان تصب في مصلحة المسيرة واستمرار الثورة وتحصينها وبلوغ أهدافها بما يؤمن وصول الشعب إلى غاياته في التحرر من كل القيود التي أجبرته على تفجير ثورته.
المعارضة بحاجة إلى نقد يسلط النور على الأسباب التي تقف حجر عثرة أمام تقدمنا نحو أهدافنا .. نقدا، نبحث من خلاله عن أساليب وطرق جديدة غير تلك التي مارسناها أو اعتمدناها فأثرت على أدائنا السياسي والثوري ، وإيجاد الخطط والبرامج والمشاريع التي تزيد من قوتنا وصلابتنا وتضاعف من اصرارنا وتمسكنا بثوابتنا ومطالبنا وتعيد للثورة حيويتها وترتقي بعملنا السياسي والميداني إلى مستوى الحدث. وهذا لن يحدث إلا بتنظيم مؤتمر لقوى وفصائل المعارضة يهدف إلى إنتاج مشروع سياسي.
المشروع الذي يهدف الى الحفاظ على ديمومة الثورة واستمرارها وكشف الأخطاء والقضاء عليها وتغذية الثوار روحيا ومعنويا ودعمهم في الصمود وتوفير الإمكانيات لهم، قد حان وقته، وهو أي "المشروع" يمثل في اللحظة الراهنة أكثر من ضرورة ، لأنها ستفتح أبوابا لمرحلة جديدة تضع حدا لسلبيات المرحلة التي سبقتها.
إننا نطالب بـ"وحدة" بين القوى والفصائل تكون مطبخا لإنتاج معالجات وحلول جدية تنسجم مع مطالب شعب البحرين في الحرية والعزة والكرامة، ونتجنب بواسطتها متاهات الرجوع الى الوراء أو تقديم تنازلات أو الانزلاق نحو حلول لا تتناغم مع التضحيات الكبيرة، فما قدمه الشعب البحريني خلال أكثر من عقد ليس بالقليل، فهناك دماء سالت، وأنفس أزهقت، وأعراض انتهكت، ومقدسات دنست، وأكثر من 4000 أسير لا تزال السلطة تمارس بحقهم شتى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، فلا يصح بعد ذلك أن يستمر الانقسام.
من هنا، من هذه الحقيقة ينبغي أن ينطلق مشروع "التوحد". من داخل واقع الثورة ومن تحديد المرحلة التاريخية التي تمر بها بكل تفاصيلها وأحداثياتها وليس من خارج واقعها الذي قد يكون معاديا لها ويرغب في انهائها حتى لو كان ذلك بثمن بخس.
كاتب بحريني.
- 2024-11-23التعايش الكاذب وصلاة الجمعة المُغيّبة
- 2024-11-20دعوة في يوم الطفل العالمي للإفراج عن الأطفال الموقوفين لتأمين حقهم في التعليم
- 2024-11-18النادي الصهيوني مرحبا بالملك حمد عضوا
- 2024-11-17البحرين في مفترق الطرق سياسة السير خلف “الحمير” إلى المجهول
- 2024-11-13حول ندوة وتقرير سلام تعزيز الديمقراطية.. أمل قابل للتحقيق