المُعذب والطبيب: لماذا يحتاج الجلاد إلى الضحية؟

صافي نزار - 2012-12-18 - 12:03 م


صافي نزار*

تعتمد الذات ـ من أجل قوتها وتماسكها ـ على سلامة إدراكها لما حولها؛ فهي تبحث دائمًا عن المألوف بين الأشياء وعن العلاقات التي تربط ما بين مكونات بيئتها. كل ذلك مفقود في تجارب التعذيب التي رواها لنا كل من عاشها؛ فالمكان مجهول، والوجوه مقنعة، والأصوات عدائية، واللهجات متنافرة، والأسئلة تظل بلا أجوبة، والإجابات غير مقبولة، والمعنى غائب. وما أسهل ـ في هذا السياق المضني ـ أن يضيع من الضحية إحساسه بالواقع، وأن ينتابه الإحساس بالغربة، وأن يستعصيَ عليه التلاؤم أو التواصل مع مكونات بيئته الجديدة المفروضة عليه قسرًا. عندما يفقد الضحية كل وسائط الاتصال بجماعته وبأحبته، معزولاً تمامًا عن كل ما يربطه بالعالم الخارجي؛ عندما يصبح مجبرًا على الاعتماد التام على جلاده ليؤمن له حاجاته ومتطلبات حياته الأساسية، وليقرر بالنيابة عنه إن كان سوف ينام، أو يأكل، أو يشرب، أو يغتسل، أو يقضي حاجته؛ عندما يفقد كل آلية للتحكم في وضعية وقوفه أو جلوسه أو اضطجاعه بسبب القيود التي تعيق حرية حركته أو لوجوده في زنزانة ضيقة؛ هنا يبدأ الضحية يرى أن إنسانيته ـ بكل ما كان يميزها من قيم راقية وآمال طموحة ـ قد انحدرت إلى مستوى البهيمة التي لا هم لها سوى تلبية حاجاتها الدُّنيا؛ عندها يرى جسده عبئًا على ذاته، ويتمنى ألا يكون، لو أن الأرض تنشق فتبتلعه. 

لم تكن أمنية "غسان"، بأن تنشق الأرض فتبتلعه، نتيجة لما يعيشه من عذاب الجسد وحده، وإنما لما أحسه في داخله فجأة من انكسار وعجز وقلة حيلة وهو يسمع أخاه "باسم" يتلوّى بين يدي جلاّده صارخًا: "لا تضربوني.. لا تعذبوني..". تعمّدوا أن يُسمعوه صوت أخيه ليكسروا عزيمته ويمزقوا أحشاءه. يقول "غسان": "يتعمدون إسماعي صوته وهو يتعذب. كنت أنهار من الداخل وأتمنى لو تبلعني الأرض." ومثلها كانت تجربة إبراهيم الدمستاني الذي كان يسمع على مقربة منه "صراخ الدكتورة رولى الصفار والدكتور محمود أصغر والدكتور علي العكري"، وكان المحققون يقولون له: "سامعهم؟ تبي مثلهم؟" فيسأل نفسه: "لا أعرف هل صراخهم الذي يفطر القلب يعزي نفسي المبتلاة مثلهم، أم أنه يزيد من لوعتي عليّ وعليهم!"

لا شراكة في الألم

يقول الشاعر: 

لا يعرفُ الشوقَ إلا مَنْ يُكابدُه ولا الصبابةَ إلا من يُعانيها
     لا يسهرُ الليلَ إلا من بهِ ألمٌ        لا تحرقُ النارُ إلا رِجلَ واطيها.

قد تتشابه تجارب التعذيب في ظاهرها، ولكن يبقى لكل ضحية ألمها الخاص بها، الجسدي منه والنفسي. ومهما حاول إنسان أن يصف ألمه لآخرين فإن الشبه بين تجربته وتجارب الآخرين لن يتجاوز القواسم المشتركة بين التجارب المماثلة في تعريف الألم والمفردات التي استخدمت في وصفه، وتبقى ملامح عديدة في كل تجربة خاصة عصيةً على الوصف وغير قابلة للتمثيل. كذلك فإن التأثير التراكمي للتعذيب على الحالة النفسية والجسدية يختلف من ضحية لأخرى بحسب الحالة الصحية، والعمر، والنوع الاجتماعي، والسياق العام للتهمة الموجهة. هناك من يعيش ألم التجربة ويتجرع مرارتها بكثير من الصبر والتجلد يستلهمها من تجارب مشابهة لآخرين، تمامًا كما فعلت "رولى الصفّار" التي ظلّت تلقّنُ نفسها: "أنا الآن لستُ رولى الصفار، أنا سهى بشارة، سأخرجُ من هنا لا محالة كما خرجتْ سهى بشارة." ثم تسرد لنا كيف استمدت من عقيدتها وإيمانها القوة والصمود في تجربة الألم والإذلال: "بدأتُ درسي الأول مع نفسي، أتلو في سرّي على نفسي وهي تُصيخ السمع وتُنفّذ الأمر، أتلو عليها دعاء الفرج. أُغالب الألم برحمة الدعاء، إنّه محفوظٌ في قلبي وسريرتي، أوزّع بركاته على جميع جسدي الرازح تحت سياطهم، فأَخرجُ من الجسد وأتركه لهم يركلونه ويصفعونه، لكنَّ روحي هي مُلكٌ لي، تبقى حرّةً مُتحرّرة من دناءاتهم وبذاءاتهم التي لم أعرفها قبلاً، ولن أسمح لها أن تتمكّن منّي أو تهزمني."

وحدهُ "الجلاد" يمكنه أن يقترب من فهم المشاعر المتداخلة لدى الضحية؛ فالجلاد عندما يضرب ويصفع ويركل، وعندما يبصق ويشتم ويتحرّش، فإنه يستعيد بذاكرته كل ألم جسدي ذاقه، وكل أذى نفسي تعرّض له في مراحل تكوينه الأولى. إنه يعرف جيدًا وجع كل ضربة، ومهانة كل صفعة وركلة؛ إنه يثأر لنفسه مع كل بصقة في وجه ضحيته، ومع كل شتيمة وتحرّش يوجهه له. ولأنه سبق وأن مارس "مهماته القذرة" مع عديدين، فهو يرى مرارًا وتكرارًا كيف يتهاوى الضحية أمامه وكيف تنسحق ذاته، فيسترجع بذلك المنظر بعضًا مما سُلب سابقًا من كرامته ويستعيد قليلاً مما أُهدر من قيمته في مراحل تكوينه السابقة. 
الضحية والجلاد: علاقة متبادلة

عندما يرحم الجلاد ضحيته لا تكون الرحمة مقصودة لذاتها. تأتي لحظة "الرحمة" لتمثل حلقة وصل بين حلقات التعذيب التي سبقتها والتي ستليها. ليس الهدف أن يفقد الضحية حياته، بل أن يبقى ليذوق المزيد من العذاب. وعادة ما يأتي فعل "الرحمة" على هيئة مبادرة شخصية غير مقصودة من طرف يبدو أبعد ما يمكن؛ فإبراهيم الدمستاني "يشفق" عليه "شخص سلفي" بتزويده بأقراص الفولترين لتخفيف ألمه، كما يأتي له "شرطي يمني زيدي" تبدو عليه "طيبة القلب والتفهم لما يجري" بكرسي يرتاح عليه بعد طول وقوف. أما "غسان ضيف" فيدخل عليه في اليوم الرابع من حبسه الانفرادي في زنزانته الضيقة "شرطي أكثر رحمة ولباقة" يعرف من لهجته أنه "آسيوي" ليحثه على تناول بعض الطعام والماء. 

يدرك الجلاد جيدًا ـ نتيجة التدريب القاسي الذي خضع له ـ أن في التساهل مع الضحية خطرًا كبيرًا على نفسه وعلى مصداقيته أمام رؤسائه؛ فهناك العشرات من عيون رفاقه ترصد فعله وقوله، وهناك كومة من الجزر، وحزمة أكبر من العصيّ في انتظاره، والوضع بالنسبة إليه لا يحتمل أي مغامرة. لذا فهو يقسو بأمر، ويرحم بأمر، ويعطي بأمر، ويمنع بأمر، ويشتم بأمر، ويسخر بأمر. إنه يدرك جيدًا معنى أن يكون المرءُ عاجزًا عن إرادة الفعل ومسلوب القدرة على اتخاذ القرار، وهو ـ بسلوكه الانتقامي من ضحية ترتمي أمامه بلا حول ولا قوة ـ إنما يحاول أن يستعيد قدرًا من الإحساس بقدرته على التحكم، والثقة في النفس، وتقدير الذات، بحيث يمكنه مواصلة حياته اليومية بشكل طبيعي. ومع امتداد الوقت تنشأ بين الجلاد والضحية علاقة ما؛ فكل منهما يرى في الآخر خلاصه وشفاءه، وإن اختلفت بينهما الغايات. 

إن حاجة الجلاد إلى الضحية ليست بأقل من حاجة الضحية إلى جلاده. وفي حين تنحصر تطلعات الضحية في تلبية حاجاتها الفسيولوجية الأساسية وفي الرغبة في الإحساس بالأمن، فإن الجلاد يتطلع إلى الحصول على التقدير من رؤسائه، وإلى تبادل الشعور بالانتماء والزمالة مع رفقاء المهنة. إنه ـ بقسوته على ضحيته ـ يقدم ما أمكن من الأدلة والبراهين على عبوديته وطاعته، فيما يعمد الرؤساء إلى إغداق "الجوائز" المعنوية والمادية عليه تعبيرًا عن "تقديرهم" لأدائه، وأهم تلك الجوائز هي حمايته من أي عقوبة أو مساءلة خارجية. هكذا تستقوي الغريزة البهيمية لدى الجلاد وتنتصر على كل قيمة إنسانية أو أخلاقية لديه، فتعمى بصيرته عن احتمالات المساءلة القانونية والعقاب في حال تغيرت الظروف، وانتصرت إرادة الحياة لدى الشعوب.

غايات ووسائل

استرجعت وأنا أقرأ لحظات معينة من تجارب المعتقلين في طوامير النظام، فوجدتهم يذكرون الوسائل والكيفيات ذاتها التي ترد في الأدبيات المنشورة في هذا السياق، سواءً في وسائل التعذيب البدني أو النفسي. ووجدت أن أدبيات التعذيب تبرر ممارسته بكونه يهدف في الأصل إلى غايات معينة من قبيل استنطاق الضحية وإجباره على الاعتراف بجريمة ارتكبها، أو من أجل أن يدلي بمعلومات تستفيد منها السلطة في محاربة عدو أو دفع خطر مرتقَب، فتساءلتُ: هل لهذه الأهداف حقًا انتُهكت أجساد المعتقلين وامتُهنت كرامتهم؟ ماذا كان بحوزة الكادر الطبي أو منسوبي وزارة التربية والتعليم أو الإعلاميين أو غيرهم من معلومات؟ وماذا اقترفوا من جرائم تستدعي أن يجري تعذيبهم بالكيفية التي وصفوها؟ هل كان استهداف كرامة النخبة من أبناء الوطن من كوادر طبية وتعليمية، ورموز الشعب، ورجال الدين، هو من أجل حماية الوطن وصيانة مؤسساته؟ هنا أيضًا لا يوجد دليل واحد على أن أيًا منهم استهدف سلامة الوطن أو أي من أفراده ومؤسساته. كان واضحًا لكل ذي عينين أن الأطباء ـ على سبيل المثال ـ لم يكن لديهم أجندات انقلابية أو أي اتصالات خارجية يفصحون عنها. معظمهم كان منشغلاً بمهنته وبعيدًا عن أي انتماء سياسي. فماذا كان مبرر السلطة وغايتها؟

هل كان الدافع هو "الانتقام" ممن تجرأ على التعبير عن رأيه في النظام، منتقدًا شخوصه وسياساته؟ بما أن السلطة الحاكمة في البلد هي القبيلة بكل أعرافها وتقاليدها، فإن الجرأة على انتقاد النظام والمطالبة بإصلاحه أو بإسقاطه يعدّ في أعرافها اجتراء على هيبة رأس القبيلة، والعقاب يجب أن يكون بضرب الأنوف، إشارةً إلى المثل البدوي: "اضرب الأنف، تدمع العين". الأنف هو أعلى ما في الوجه، وهو يرمز إلى "الأنَفَة" والرفعة والكرامة وعزّة النفس، وهو ما يقبّله البدوي تعبيرًا عن تقديره واحترامه لصاحبه، وبالعكس من ذلك عندما يضربه. وتوافقًا مع هذا العرف القبلي فقد توجهت السلطة إلى ضرب "الأنوف" بكل ما أوتيت من قوة، وأنزلت عقابها على "النخبة" الرفيعة من كوادر مهنية ورجال دين أو قيادات شعبية لمجرد تعبيرهم عن رأيهم في سياساتها. 

هي محاولة لإعادة الهيبة إلى رأس القبيلة وتذكيرٌ للعامة بمدى سطوة القبيلة وقوة جبروتها فلا يتجرأ من دونهم بعدها على معاودة الاعتراض عليها بالقول أو الفعل. ذكرني رد فعل السلطة ـ القبيلة ـ في البحرين بموقف مشابه في اجتماع عقده السلطان خريبط مع كبراء القبيلة من أقربائه وأخوال أولاده، عندما قال "وقيان" ناصحًا للسلطان في "تقاسيم الليل والنهار" من رباعية "مدن الملح": "يلزم تسنّعهم زين، إذا طقّيت كم واحد، الكل يتعلمون ويصيرون"، وبعدها قول السلطان نفسه في نهاية الاجتماع مؤكدًا على أخذه بنصيحة "وقيان" ومهددًا: "أما إذا واحد خرج على الجماعة فلا يلوم إلا نفسه، وما أحد كبير، وما أحد بعيد، إذا خرج على الطاعة". إذن فالهدف المنشود في نسختنا البحرينية هو تأكيد "الطاعة" للقبيلة، ثم "الطاعة"، ثم "الطاعة"، و "ما أحد كبير، وما أحد بعيد، إذا خرج على الطاعة".

* كاتبة من البحرين.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus